انتقل ملف أمن الخليج بالكامل إلى الإدارة الأمريكية من بريطانيا بعد اتفاق في عام ,1968 ومنذ ذلك الوقت جربت أمريكا العديد من التطبيقات لتحقيق هذا الأمن من وجهة نظرها التي تخدم مصالحها ومصالح الغرب حتى لو كان على حساب دول المنطقة، ولا نستطيع الجزم بنجاح كل هذه التطبيقات أو فشلها، ولكنها لا تزال تتعامل معها وفق الظروف والتوترات العالمية.
الجديد في الأمر أن أمريكا وجدت نفسها مضطرة إلى التدخل المباشر بقواتها في نهاية الثمانينات بحجة إنهاء الحرب العراقية-الإيرانية (التي خلقتها)، وقد دعم وجود القوات الأمريكية في المنطقة أيضاً احتلال صدام حسين للكويت وانتهاء الحرب الباردة والتي أصبحت بعدها القوة العالمية الوحيدة. فالظروف بعد أحداث 11 سبتمبر أوجدت واقعاً جديداً سهل للولايات المتحدة احتلال العراق والوجود بكثافة أكبر في منطقة الخليج وانتهاء سياسة الاحتواء التي استخدمتها زمن الحرب الباردة مع كل من العراق وإيران. إن إصرار كل من إيران والولايات المتحدة على رأيهما في موضوع الملف النووي الإيراني يدخل المنطقة ضمن خيارات جديدة تنهي الخيارات القديمة. لكن بعد التطورات الأخيرة المتمثلة في تورط الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان أصبحت واشنطن تفكر في توفير الأمن من دون أن يكلفها المزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية التي منيت بها في الفترة الأخيرة. وتعج الصحف والدوريات الأمريكية برؤى عديدة حول أمن الخليج لما تمثله هذه المنطقة من أهمية إستراتيجية وحيوية للعالم وخاصة للولايات المتحدة، ويتحدد أكثر وأكثر في الأمن الاقتصادي وخاصة في الأمن النفطي وهي تنظر إلى أي عامل قد يؤثر في إمدادات تدفق النفط بأنه سيؤثر أيضاً وبشكل مباشر في الاقتصاد العالمي وربما يؤدي إلى كساده. لكن المعارضين لسياسة بوش يستندون إلى إحصائيات أجرتها جمعية خيرية أمريكية بأن الأموال التي تنفقها الولايات المتحدة على الحرب في العراق تصل إلى 720 مليون دولار يومياً يمكن أن تشتري بها منازل لحوالي 6500 أسرة أو تأمين طبي لـ 423529 طفلاً أو تزويد 27,1 مليون منزل بطاقة كهربائية متجددة، حيث يقدر ما أنفقته الولايات المتحدة عام 2006 بأكثر من 2,2 تريليون دولار باستثناء الفائدة على الديون. ولكن بعض المؤيدين لسياسة بوش في العراق يرون أنه حتى إذا كانت الحرب مكلفة فإنها ليست ذات أهمية من الناحية الجوهرية، ويقول فريدريك كيفان الأستاذ في (أمريكان انتربرايزا نسيتيوت) إن النظر إلى العراق يجب أن يكون من زاوية أنه يدعم الأمن القومي الأمريكي أم لا. ولكن ما الذي يفعله الدبلوماسيون عندما لا يعرفون ما الذي يتعين عليهم فعله ؟ وجد الدبلوماسيون أن أفضل مخرج آني للخروج من أزمتهم الداخلية والعالمية والإقليمية هو الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي كوسيلة نافعة على عدد من الصعد، أولها تغطية الساسة العرب للولايات المتحدة بـ (ورقة توت) تعطي انطباعاً بأن شيئاً ما يجري القيام به، وتخلق حشداً هائلاً لإبعاد الاهتمام عن التخبط الذي يعانونه وهي فسحة كافية لإعادة ترتيب أوراق المنطقة، أي أن القضية الفلسطينية أصبحت قضية أيديولوجية ونقطة جذب سياسي يتخذها الجميع وسيلة عبور لتحقيق أجنداته المرسومة، خاصة أن إسرائيل مشغولة بالخطر الإيراني والجهات التي تعمل لصالحها في سوريا ولبنان وغزة. إن الولايات المتحدة قلقة من إجراءات إيران وتشعر بالخيبة لعدم نجاح العروض الدبلوماسية التي قدمت لإيران لأنها لم تحقق أي تقدم حتى الآن، والمسؤولون في الإدارة الأمريكية يدركون أن النظام الإيراني قادر على تحقيق إجراء تحويل سياسي من هذا النوع، لكن الإدارة الأمريكية استنتجت أيضاً أن إيران لن تساوم إلا إذا شعرت بأنها تحت ضغط أكبر من عقوبات اقتصادية أقوى ومن تهديدات موثوق بها باستخدام القوة العسكرية ضدها، خاصة أن الموقف الفرنسي والبريطاني والألماني الآن أصبح أكثر تشدداً من ذي قبل، أي أن هناك شبه إجماع دولي خاصة بعد العرض الروسي على التخصيب المشترك في موسكو لنزع فتيل الأزمة. إن أكبر خسارة يمكن أن تخسرها إيران لحليف إستراتيجي هي روسيا مما قد يدخلها عملياً في دائرة الخطر في الحسابات السياسية، أي أن التعبئة السياسية العالمية ضد إيران ليست شبيهة بالتعبئة السياسية ضد صدام عام ,2003 وتبقى روسيا والصين الحاجز الأخير ضد إصدار مجلس الأمن قراراً ثالثاً يقضي بفرض عقوبات على إيران. لكن إيران ليست العقبة الأساسية التي تقف أمام واشنطن، وإنما هناك عقبات أخرى ألا وهي رغبة روسيا في العودة إلى نفوذها العسكري والسياسي في عهد الاتحاد السوفييتي خاصة بعد استئنافها دوريات جوية بعيدة المدى لقاذفاتها ترجع إلى العهد السوفييتي رداً على تهديدات أمنية من جانب قوى عسكرية أخرى في إشارة إلى الولايات المتحدة، حيث قال الرئيس الروسي بوتين قررنا إعادة الرحلات التي يقوم بها الطيران الإستراتيجي الروسي بشكل دائم بعدما أوقفت عام 1992 من طرف واحد، والآن انسحبت روسيا من معاهدة حظر انتشار الأسلحة متوسطة المدى. ورغم الرد الأمريكي الذي استخف بعودة تلك الطلعات الجوية، إذ صرحت وزارة الخارجية باسم ناطقها ماكورماك بأن تلك الطائرات قديمة جداً، لكن ما يثير اهتمام واشنطن هو المناورات العسكرية المشتركة الضخمة وغير المسبوقة مع الصين في استعراض للقوة أمام العالم الغربي في قمة (منظمة شنغهاي) التي أطلق عليها اسم (مهمة السلام 2007) وهو ما يدل على مستوى جديد من التعاون العسكري بين روسيا
والصين، وجاءت تلك المناورات بعدما أكد قادة (منظمة شنغهاي) معارضتهم المشتركة للهيمنة الأمريكية، ويأتي هذا بعدما عبرت واشنطن عن انزعاجها من حملة تجسس اقتصادية وتكنولوجية واسعة النطاق تقوم بها الصين داخل الولايات المتحدة بما في ذلك أسرار بعض الصناعات العسكرية الأمريكية. كما إن روسيا تعتقد أنها مستهدفة من خلال الدرع الصاروخية الأمريكية، في حين تؤكد واشنطن أن مشروعها يهدف إلى حماية نفسها وأوروبا من خطر نووي محتمل. وأول دوافع تغير الموقف الأمريكي بصورة دراماتيكية هو الأوضاع العسكرية والسياسية شديدة السوء التي تعانيها القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان وفي ظل التقدم العسكري المطرد لحركة طالبان وحلفائها على الأرض وعدم قدرة التحالف الغربي والقوات الحكومية على التصدي للحركة، ومن أجل عدم مضاعفة المأزق الأمريكي وافقت أمريكا على مساعي الرئيس الأفغاني حامد قرضاي بالتفاوض مع الزعيمين الأفغانيين الأكثر عداوة لواشنطن الملا عمر زعيم حركة طالبان وقلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي بالتحالف معهما على أن يتخلى كل منهما عن تنظيم (القاعدة) ليصبح وحيداً في الميدان. ويبدو أن الحركة لن تقبل أياً من تلك الصيغ خاصة أنها تملك التأييد الداخلي وتملك أيضاً من المقومات والإمكانات والتقدم العسكري ما يمكنها الدخول مرة أخرى إلى كابول، ولكن هل تقبل واشنطن ؟ قد تقبل على مضض لإنهاء أزمتها وتورطها. ولكن السؤال المهم لماذا تتم صياغة أمن الخليج حتى الآن من دون مشاركة دول المنطقة؟ سبق في اتفاق الجزائر بين صدام حسين وشاه إيران في 7 مايو 1975 على أن تتم صياغة أمن الخليج حصرياً بين دول المنطقة من دون مشاركة أجنبية خاصة بعدما وافق الشاه على أن يمارس ضغطاً على الكويت ليؤجر للعراقيين الجزر التي يحتاجون إليها لتحسين مداخلهم للموانئ وذلك في مقابل تعهد عراقي بألا يصر على الكويت بالتنازل عن سيادتها، وكان العرب على ثقة بأن المسألة مسألة وقت فقط لينعقد مؤتمر لدول الخليج ولم يتوقعوا التغيرات المفاجئة القادمة بقيام الثورة الخمينية لتغيير خريطة التوقعات، وتنقلب الأمور رأساً على عقب تماماً ويتم دعم صدام ضد الثورة الإيرانية ما أدخل المنطقة في دوامة حتى يومنا الحاضر، وبالتالي أصبحت صياغة أمن الخليج بيد الولايات المتحدة تحديداً. إن دعم الغرب للثورة الخمينية وسعي العرب إلى صلح كامب ديفيد وضعا نهاية مأساوية للأمن القومي العربي بما فيه صياغة أمن الخليج ليحل محله الأمن الوطني لحماية الحدود التي خلفها الاستعمار، حيث أصبح ممنوعاً على العرب الدفاع المشترك أو اتفاق خليجي-إيراني، بل المطلوب هو دخولهم في صراع مزمن، وبدأت القوات الأمريكية في المقابل بناء القواعد العسكرية الضخمة، فغاب الأمن القومي والإقليمي، وسقطت نظرية ومعاهدة الدفاع المشترك بما فيها صياغة أمن الخليج على أيدي دول المنطقة، وحلت محلها الحروب الأخوية، وغزا صدام إيران ثم أنقذته أمريكا ثم غزا الكويت فأخرجته أمريكا مرة أخرى بمشاركة القوات العربية.. إنها حالة مأساوية. ولم يستطع العرب إعادة الأمن العربي المشترك، وأصبح من أحلام اليقظة، وساد الاعتماد شبه الكلي على الغير في مواجهة الحلم الإيراني في الاختراق العسكري والسياسي ليس لدول الخليج فقط، بل للدول العربية أيضاً. وفي غيبوبة العمل العربي المشترك ظهرت قوى غير نظامية نجحت في دحر هجوم إسرائيلي على لبنان بدعم إيراني مما قد يفتح المجال أمام ظهور جماعات جهادية أخرى في المستقبل. لذلك أصبح الخطر في المنطقة خطرين وهما الخطر الإسرائيلي والخطر الإيراني بعدما كان خطراً إسرائيلياً فقط، وفي ظل غياب أمن عربي مشترك تظل خيارات حروب جديدة قائمة وهو خيار إسرائيلي فقط. فسوريا معرضة لحملة إسرائيلية برية وإيران معرضة لضربة جوية، ولا تستطيع قوى المنطقة إيقاف تلك الاجتياحات أو الضربات.
وبعد ضياع تلك الفرص التي لم يستغلها العرب في بناء مشروع أمن قومي جماعي مشترك تبقى إمكانية البحث عن صياغة الأمن الإستراتيجي والسياسي والاقتصادي بدلاً من العسكري على الأقل تكتيكياً ريثما تحين الفرصة لتحقيقه. ويأتي على رأس تلك الأولويات صياغة هذا الأمن على الأقل لتحييد الخطر الإيراني باحتوائه بدلاً من الدخول معه في مواجهة تحقيقاً للأمنيات الأمريكية، والدخول معه في شراكات اقتصادية مقابل مقايضته في الحد من استمرار هيمنته على حساب دول الجوار. وأيضاً يأتي على رأس تلك الأولويات (تدويل) منطقة الخليج اقتصادياً وسياسياً خاصة عبر تعزيز الدورين الروسي والصيني إلى جانب الأدوار الأخرى مع تنشيط الدبلوماسية في المنطقة انطلاقاً من موقفها الداعم والمساند لقضايا المنطقة التي لا بد من إيجاد حل عادل وسلمي لها بما يضمن حقوق شعوبها، خاصة أن روسيا تسعى إلى استعادة علاقاتها في المنطقة، كما كانت أيام الاتحاد السوفييتي، لا سيما أنها تخالف أمريكا في مسعاها نحو حل القضايا العالقة عن طريق المحادثات بدلاً من المواجهات العسكرية، وكذلك يأتي على رأس تلك الأولويات استثمار تلك الزيارات وتحجيم الأدوار الأحادية مع اهتمام المنطقة بتوقيع مذكرات تفاهم حول توطين التقنية والعلوم الدقيقة والمعرفة المتقدمة خاصة المتعلقة بعلوم الفضاء والتصوير الفضائي والاهتمام بالملاحة وغيرها من العلوم التي تتفوق بها تلك الدول بما فيها التقنية النووية السلمية وبقية العلوم المتطورة لا سيما التي تكتسب أهمية شديدة في الكشف عن المصادر الطبيعية والم
عادن في الصحراء وأهميتها في صناعة النفط والغاز، أي بمعنى آخر جعلها منطقة اقتصادية عالمية تعددية غير محتكرة لصالح فئة محددة مع التفكير الجدي في إقامة أمن إقليمي مشترك أساسه الثقة والتعاون.
صحيفة الوطن
9-12-2008